في ذكرى رحيل الوالد محمد محمود ولد محمد الراظي / محمد البخاري ولد آللا

إنه من حقنا ان نقف وقفة تذكر وتأمل و تدبر لذلك المساء الذي كانت شمسه ليست كغيرها، حيث اغتمت فيه السماء غماما وامتلأت سوادا وحزنا وحق لها، فواقع الصدمة كان شديدا ووقع المفاجأة كان مريرا على كل محبي الرجل في كل حدب وصوب من وطننا العزيز فتساوى فيه القريب والبعيد ولا غرو، فالخطب طم والمصاب جلل بفقد ندب شهم كريم شجاع تجتمع فيه كل السجايا النبيلة و الأخلاق الحميدة التى كانت له تاجا وعنوانا طيلة حياته الدنيوية لتبقى معينا وذخرا ومثالا يحتذى به لكل الأجيال، تنهل وتعلّ منه.
إنه سليل التاريخ والحضارة وحفيد الأولياء والصالحين الذين جمعوا بين طلب العلم وحمل السلاح متميزين بذلك من بين القبائل المحيطة بهم.
هو محمد محمود ولد محمد الراظي ولد محمد محمود ولد سيد المختار ولد محمد محمود ولد عبد الله ولد لمرابط سيد محمود الذي على يده تأسست إحدى أنبل وأعرق وأكبر القبائل الموريتانية فكانت محجة وطوافا وأمنا لكل المستضعفين من كل الأعراق وسندا وعونا لكل المستغيثين واللاجئين الذين منحت لهم الأراضي وحفرت لهم الآبار، فمن باب الطرافة قيل أن أحدهم قال ” الأرض لنا والسماء لله” و بما أن المقام يضيق عن سرد كل ذلك ونحن بحاجة إلى أن نغوص في مراحل حياته النضالية والسياسية لنستفيد منها والبلاد تمر بمنعطف سياسي غير مسبوق من ترسيخ للديمقراطية و تناوب سلمي للسلطة لا شك أنه من الذين ناضلوا من أجل تحقيقه فمن لا ماضي له لا حاضر ولا مستقبل له تغمده الله بر حمته وإنا لله وإنا اليه راجعون .
-أهم محطات حياته
*المولد والتكوين:*
في يوم مبارك من سنة 1943 ولد محمد محمود سميُ جده فكان له الحظ الوافر من الإسم و الوسم فمن شبه أباه فماظلم تربى و ترعرع في بيت زعامة وسيادة مما هيأ له تربية خاصة فدرس العلوم القرءانية كباقي أقرانه وتعلم فنون القتال والفروسية على طريقة ٱبائه وأجداده ملتحقا بالمدارس الفرنسية في مدينة كيفة سنة 1949 ليحصل على شهادة الدروس الإبتدائية فيمتهن التدريس مباشرة مدشنا بذالك ولوجوه عالم النضال كنقابي وسياسي ديدنه مصلحةالبلاد والعباد.
– *النقابي الكادح المخلص:*
في مطلع سيتينات القرن الماضي شهد العالم الثالث اي مايعرف بالبلدان حديثة الإستقلال مجموعة من الحركات التحررية من بين أهدافها ترسيخ مفهوم السيادة أمنيا وأقتصاديا و أجتماعيا وتوحيد المجتمع بكل أعراقه ونشر ثقافة الوعي والمواطنة و مطالبة الحكام بعدم التبعية للمستعمرين السابقين وخلق إطار معارض لتحقيق كل ذالك ومحاربة العبودية والإقطاع ومحو ٱثارهما كل هذا وأكثر أيقظ همم مجموعة من الشباب البررة الغيورين على وطنهم المحبين له فناضلوا و سجنوا وعذبوا فتحقق لهم الكثير مما كانوا يصبون له من مكاسب كان لها الأثر الكبير على البلاد غير أن بعضهم و للأسف انجرف مع الأنظمة الفاسدة التي تعاقبت على البلاد من دعم للإنقلابات وأكل للمال العام ليكسب صاحبنا الرهان ويثبت إخلاصه وإيمانه القويين ويظل وفيا لمبادءه وقناعاته بأن المصلحة العامة فوق كل إعتبار مهما كان الثمن وسأترك تسلسل الأحداث يوضح أكثر من عام 1961 وحتى 1992
*1961 مدرسا في مدرسة “ٱندرنيه” في هامد التابعة لمقاطعة كنكوصة وكانت هي البداية ليحول منها الى عدة مدارس في المنطقة عقابا له لإيقافه وردعه عن العمل النقابي وانتزاعه الحقوق لأصحابها فلم يزده ذلك إلا إصرارا وقوة حيث كان كل ما حل ببلدة تلقته بالحفاوة والترحيب فانتشر فكره التقدمي ليكون تحديا كبيرا بالنسبة للسلطة أنذاك فصنفته من بين الحركيين الخطرين الذين يجب ان يواجهوا بكل اساليب التهديد والترغيب رغم ذلك كله كان دائما عند حسن ظن رفاق دربه كما شهدوا له بذلك في أكثر من مناسبة.
* 1966 وبعد الأحداث العرقية التي كشفت عن الظرف الدقيق الذى تمر به البلاد كان رحمه الله من المؤسسين للحركة الوطنية الديمقراطية التي دعت الى قيم العدالة والوحدة الوطنية و محاربة العبوديةوالإقطاع.
* 1969 كان أحد قادة الإضراب الذي قامت به نقابة المعلمين الفرنسيين فأبلى فيه بلاءا حسنا و دفع ثمنه غاليا حيث حول في السنة الموالية الى تجگجة.
* 1970 كان تحويله الى تجگجة فرصة كبيرة بالنسبة له حيث تعرف فيها على قادة بارزين كمحمد ولد مولود و مصطفى سيدات والمناضلة عائشة منت مني وأنخرط معهم في تنظيمهم السري الذى كان حاضرا في المنطقة وقام بأدوار محورية حققت الكثير من المطالب فيما بعد ،إن انضمام الرجل لهذه الحركة كان فتحا ونصرا مؤزرا وذالك نظرا لإنتمائه إلى بيت زعامة تقليدية فكان لهم قوة وحماية فدائما توكل إليه المهام الخاصة لأنه من الصعب على الدولة إعتقاله نظرا لمكانته الإجتماعية، يحكى أنه قام بزيارة رفقة زوجته الى والده محمد الراظي في قرية “دسق” فكانا لا يقبلان المساعدة من بعض العاملين الموجودين هنالك ويقولان لهم اذهبوا الى شؤونكم فالناس سواسية وكلٌ عليه ان يخدم نفسه بنفسه هكذا عود الكل أنه يحمل رسالة مؤمن يحب للجميع ما يحب لنفسه لايتاجر ولايكابر بتوجهاته وبمعتقداته فما أحوجنا لمثله اليوم.
*1971 كانت سنة مفصلية ملتهبة تتالت فيها الكثير من الأحداث ولعل من اهمها مهرجان ثانوية البنات المشهود الذي دعت له النقابات العمالية و الذي شهد أشد أنواع القمع وسجن فيه عدد من النقابيين مما تمخضت عنه احتجاجات في الثانويات كانت كافية أن تجعل من تلك السنة سنة بيضاء فكان محمد محمود الدينامو الأساسي لهذه الأحداث
فأبدى شجاعة وإقداما منقطعي النظير وأبهر الناس حسب ما وصفه به رفيق دربه المصطفي ولد بدرالدين رحمه الله.
سنون حملت في طياتها الكثير أُمتحنت فيها عزائم وهمم الرجال فمنهم من استسلم وحاور وتخلى عن رفاقه ومنهم من ظل دائما مستمسكا بالعروة الوثقي لايخاف في الله لومة لائم.
نعم كان محمد محمود من هؤلاء لم يقبل يوما الاندماج في حزب الشعب ولا منصبا حكوميا على الرغم من كل ما مورس على والده من ضغوطات من طرف الرئيس المؤسس المختار الذيْن كانا تربطهما علاقات خاصة رحم الله الجميع.
*1977 ظل صاحبنا وفيالحركته وبذل فيها الغالي والنفيس وحضر بقوة رفقة رفاقه لمؤتمر الشباب الذي نظم في شهر أغسطس حيث استطاعوا حصد غالبية المناديب بمقاطعة كيفه.
*1981 في هذه السنة تم انتخابه مندوبا جهويا لإتحاد العمال الموريتانيين ليكون ذلك الانتخاب بداية لمعركة نقابية دامت ما يربو على عقد من الزمن تم فيها اختياره أمينا عاما للاتحاد سنة 1989 أثبت الرجل أنه بحق يحب وطنه حبا جما فضحى بكل شئ من أجل أن يعيش العامل الموريتاني عيشة راضية لكنه لم يجد من ينادي الكل وقف في وجهه من سلطة ومرتزقة بطونهم أعز عليهم من الوطن والعياذ بالله فخسر العمال فرصة لا تعوض كانت قادرة ان تجعل من البلاد نموذجا في المنطقة تسود فيه العدالة الإجتماعية لتفتح الباب أمام تطبيق قواعد ديمقراطية صحيحة ليواكب الرجل مرحلة أخرى تمثلت في ارهاصات مايعرف بدستور 1991 وانتقال البلاد الى التعددية الحزبية فكان من بين المؤسسين للجبهةالوطنية من أجل الوحدة والتغيير FDUC ليكون من مؤسسي حزب اتحاد قوى الديمقراطية UFD ثم عين مديرا لحملة الرئيس احمد ولد داداه فكان التحدي الأبرز للسلطة أنذاك بشهادة المراقبين أنذاك.
-الزعيم التقليدي الملهم:
في يوم الثاني من مارس1992 توفي محمد الزاظي و أُريد لمحمد محمود السياسي التقدمي و النقابي الكادح و التنويري المتحضر أن يخلف أباه على رئاسة قبيلته الأمر الذي أصبح لا مناص منه، رغم زهده فيه حتى أنه استشار بعض مقربيه على أن يقبله فشجعوه عليه لأن المرحلة تستدعي رجلها فكان نعم القائد المتبصر ليستأنف عهده بزيارة جميع التجمعات السكانية التابعة له ويحثهم على ثقافة الإتحاد والعمل والتوجه إلى التعليم والمحافظة على البيئة ليتوج بذالك عصرا ذهبيا لمجموعته فكان كله عدل وإنصاف ذاق طعمه كل الناس.
في عام 1994 وبعد ما اظهرته السلطة من حسن نية من إكرام وإحسان إبان وفاة الوالد محمد الراظي هاهي تعود بوجه آخر لتفاجأ وترشح في كيفة بدون تشاور مع محمد محمود ليجد نفسه أمام امتحان موضوعه الأول الوجود أو عدمه ،فكان قادرا أن يثبت وجوده ، ففكر وقدر ورشح نفسه ضد الحزب الجمهوري ثم نجح فدخل التاريخ والتفاصيل محفوظة في ذاكرة اهل كيفه.
ينصب العمدة الجديد رغم في جو من الفرح وزغاريد المناصرين و تُعطى القوس باريها ليبدأ مؤمويته بالعمل الجاد والبحث عن موارد جديدة وذالك عبر الإتصال بالخارج حيث جلب لها الكثير من الموارد مما عاد بالنفع على جميع المواطنين فلم يغلق يوما بابا، يشهد بذالك الضعيف والفقير.
وفي 1998 عادت المياه إلى مجاريها بينه والحزب الجمهوري بعد أن عرف الأخير أنه لا مكان له في كيفة بدون محمد محمود ليعين سنة 2002 رئيسا لمجلس إدارة ميناء الصداقة وفي 2006 شارك في الأيام التشاورية الإجماعية التي دعى لها مجلس العدالة والديمقراطية الذي انبثق عنه دستور جديد كان مكسبا كبيرا حتى اليوم، ثم تنظم انتخابات نيابية وبلدية فيرشح فيما بات يعرف بالمستقلين ويفوز بمقاعد النواب في مدينة كيفة والمركز الأول في البلدية لكنه رفض شراء المستشارين رغم أن المرشح كان نجله.
وفي رآسيات 2007 دعم وبقوة المرشح سيد محمد ولد الشيخ عبد الله الذي فاز في الدور الثاني في أول انتخابات وصفت بأنها شفافة، وفي السادس من اغسطس تنقلب مجموعة من الضباط على الشرعية ليقف لهم بالمرصاد وذلك عبر الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية ويشارك قادتها الوقفات والمهرجانات المناوئة للإنقلاب، ليحضر مهرجانها الوحيد في كيفة والذي ترأسه يحي ولد سيد المصطف .
و في تلك الآونة انهالت على محمد محمود الكثير من الضغوطات من الأهل وداعمي الأنقلاب لحثه على دعم المجلس العسكري وانصبت عليه الرسل من الأنقلابيين أنفسهم محاولات كلها باءت بالفشل مبررا موقفه بأنه لن يسلم موريتانيا للمجهول ولن يتقاعس عن رئيس انتخبه الشعب، فيعزل من منصبه فما كان منه إلا أن يبادر برد كلما بيده لهم،ولأنه يرى بعقل ثاقب ويفقه السياسة وجد أنه من المناسب أن يبتعد ولو لبعض الوقت فقرر أن يزرع سده المعروف ب”أگرج”ويختار أن يكون مزارعا بدلا من أن يكون رئيسا وأن يركب سيارة بسيطة بدل أخرى فارهة فمثلُه لا يشترى بملئ الأرض ذهبا، يحكى أنه زاره أحد الموظفين السامين في مزعته يدعوه للعدول عن معارضة الأنقلاب فأكرمه ثم أهدى له خنشة من ” آدلگان” وأخرى الزرع وثالثة من “النبق” وقال له هذا أفضل لك أن تعود بدعم محمد محمود لإنقلاب على رئيس منتخب.
وفاته:
في حادث مؤلم كان كالصاعقة عليَ خاصة و على كل من عرف الرجل وخبره وعايشه في غروب يوم الثامن والعشرين من مارس 2009 انتقل رحمه الله إلى الرفيق الأعلى تاركا وراءه فراغا كبيرا عزاؤنا فيه أن لا مصيبة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فمثله يموت جسمه ولكن ذكره لا يموت ويوارى الثرى لكن قبره لن يستأثر به، فله في كل القلوب المحبة الذكر الحسن ،اللهم ارحمه وجازه عني وأكرم نزله واجعله مع النبيئين والصديقين والشهداء وحسن اولئك رفيقا.
محمد البخاري ولد آللا
زر الذهاب إلى الأعلى