كتبت قبل أسابيع مقالا عن الذكرى الثالثة والستين لعيد الاستقلال الوطني، حاولت فيه تلخيص أهم ما قدمه بعض علماء الاجتماع عن المجال السياسي الموريتاني، وقدمت فيه توصيات عملية واستشرافا للمستقبل، وعندما سألت بعض الأساتذة المهتمين قال لي لم أقرأه لأنه مقال تذكير وبحث عن التعيين، فقلت وما الضرر في التذكير والبحث عن التعيين؟ لقد توقعت من باحث مثلك أن ينظر “لذات القول لا للقائل” ويتخطى العناوين إلى المضامين..
وتبين لي أن الأصل في الموظف المُقال عندنا أن جميع ما يكتبه مبني على التذكير، وهو من أبواب النداء والاستغاثة بغير الله…
وقد جرى العرف في بلادنا أن الموظف والمسؤول مبني على الصمت، ليس فقط من باب واجب التحفظ وسر المهنة، لأن المثل الدارج يقول إن الأواني الفارغة وحدها هي التي تصوت، بل لأن الموظف العمومي متهم بالأكل ما دام المال العام في غير حرز، وهو سياسي بالصفة والسياسة المحلية تقوم على الولاء مقابل العطاء، والمجتمع يتوقع ذلك بل يطلبه، ومن لا يفعل قالوا عنه “منفوش”، رغم أن هذه الحجج واهية أمام الله وأمام القانون…
وقد ذكرت وزيرة من إخوتنا الناطقين بالبولارية أن لديهم مثلا يقول إن المرء لا يتكلم وهو يأكل، لأن من آداب الأكل الأكل، وقد كره فقهاؤنا السلام على الآكل، فلا سلام على طعام..
ومن طرائف الأمثال البولارية أنهم يستغربون ضياع الأشياء إذا لم يكن قد مر بيظاني أو فلاني فيقولون مستغربين “افلب أراني شباتو أراني؟”
و”فلب” هم بدو الفلان، ويشبهون في خفة الحركة وخفة اليد البيظان “شباتو”، على عكس البولار المزارعين!
وقد استغرب بعض الزملاء نشري مقالا للتوضيح بشأن ملاحظات محكمة الحسابات في تقريرها الأخير.. وقالوا إن عرف الموظفين أنهم لا يعلقون على هذه الأمور لأنهم يطمعون في إعادة الثقة.. وإذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب..
وعادة بعض منسوبي القلم والثقافة أنهم إذا ما فشلوا في السياسة، انكبوا على العلم وربما أبدعوا، وذلك ما يسميه أهل علم النفس بالتعويض..
ومن أشهر من حفظ لنا التاريخ قصتهم، عبد الرحمن بن خلدون الذي قضى قرابة ثلاثين سنة يتقلب في الوظائف ومكائد البلاطات بين سلاطين تونس، وبجاية، وفاس، وغرناطة، حتى فشل وقرر الاعتزال، وجلس في قلعة ابن سلامة ليكتب التاريخ ويهتدي إلى علم العمران البشري والاجتماع الإنساني، حيث قدم نظريته العجيبة في علاقة العصبية بالدولة التي ما زالت إلى اليوم مرجعية في علم الاجتماع السياسي، وخصوصا في المجتمعات القبلية..
قلت، ولا قول لي، كما يقول السلف، إن المرحلة الحالية مرحلة يندب فيها لأصحاب الرأي والمتطفلين على الثقافة من أمثالنا مشاركة السياسيين والإسهام في النقاش العمومي، لأن السياسة أخطر من أن تترك بيد السياسيين..
ولأن فرصة الإجماع الوطني الكبير حول فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني فرصة لا تعوض لترشيد الخطاب الوطني، وتشكيل سلطة اقتراح تساهم في توجيه أولويات التنمية، وتعزيز اللحمة الوطنية، في مواجهة وضعية الفوضى السياسية التي تعيشها المنطقة، والمساهمة في تقديم مقترحات عملية لتوظيف الثروات القادمة مثل الغاز والهيدروجين الأخضر، حتى تنتقل بلادنا من الاقتصاديات الريعية الاستهلاكية إلى مرحلة الإنتاج وبناء الإنسان..
في هذا السياق كانت مقالتي الأولى، وحول التذكير به جاءت مقالتي الثانية..
ولأن هذا الصنف من مقالات الموظفين المقالين، هو من باب ما يسميه المثل الشعبي “كَبظتو الاذاعة” فلا ينتظر منه أن يكون فصل المقال فيما بين الوظيفة والسياسة من اتصال..
ولعله أقرب إلى برنامج الكرمي رحمه الله “قول على قول”..
والقرابة بين كثرة المقال والإقالة إنما هي جناس لفظي بين الفعل الثلاثي “قال” مع الرباعي “أقال”، والقائل فاعل والمُقال مفعول به، والأصل أن الإقالة عندنا عن وشاية أو قالة سوء؛
وقد قال النابغة الذبياني في اعتذاريته المشهورة للنعمان بن المنذر:
لئن كنت قد بلغت عني وشاية
لمبلغك الواشي أغش وأكذب
أقال الله عثراتنا وعثراتكم، وعصمنا وإياكم من الزلل في القول والعمل..