وطني بعمر النبوة / بقلم محمد محمود ولد سيد يحي

سن الثالثة والستين عمر مبارك، فيه اكتمل الدين، وانتقل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وتوقف الوحي إيذانا ببلوغ البشرية سن الرشد.. ليمتد هذا العمر النبوي المبارك أربعة عشر قرنا عبر حضارة الإسلام المتجددة..

وطني في سن الثالثة والستين، وأعمار الدول أطول من أعمار الأفراد، وهي مجرد فواصل في أعمار الأمم والحضارات التي تقاس بالقرون..

حدد عبد الرحمن بن خلدون عمر الدولة في زمانه بثلاثة أجيال، قرابة مائة وعشرين عاما؛ (جيل البناء، وجيل التقليد، وجيل الهدم)، ولا شك أنه يقصد أعمار الأسر المالكة أو العصبيات المتغلبة كما يصفها علم العمران الخلدوني في مقدمته العجيبة..

لم يكن تجدد الطبقة السياسية عن طريق الديمقراطية والانتخاب مطروحا في زمان ابن خلدون، رغم أن علم العمران الخلدوني ما زال حتى اليوم مرجعية كبرى في تفسير التاريخ السياسي الإسلامي، وهو مفتاح تفسير التاريخ السياسي الموريتاني كما يجزم بذلك رائد السوسيولوجيا الموريتانية الدكتور عبد الودود ولد الشيخ في أطروحته الشهيرة حول عوامل نشأة النظام الأميري في المجتمع الموريتاني قبل الاستعمار.

ثلاثة وستون عاما بعد الاستقلال، والدولة الموريتانية الفتية تسير واثقة إلى الأمام، لم تكن سرعة هذه المسيرة بوتيرة واحدة، لـأن طبيعة التحديات الكبيرة التي واجهتها وما زالت تواجهها متعددة.. دولة تريد أن تكون عصرية وهي تحمل تراث “منكب برزخي” بلغة الشيخ محمد المامي، ظل عصيا على السلطة المركزية، ببنياته التقليدية ورماله المتحركة..

صعوبة انقياد البدو للقانون، أو ما يسميه ابن خلدون “أنفتهم عن معاناة الأحكام” كان عنصر قوتهم في تغيير الدول، وهو نفسه عنصر ضعفهم لأنهم لا يلبثون أن ينخرطوا في الترف والملذات فتتفكك عصبيتهم، والترف مؤذن بخراب العمران وتلك سنة كونية قرآنية {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا}.

وحده الدين هو ما يستطيع أن يحول التنافس الطبيعي داخل العصبية أو القبيلة الى ألفة واستعداد للانقياد كما يقول صاحب المقدمة، قال تعالى: {وألف بين قلوبهم لو انفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم}.

هذه العلاقة الجدلية بين ثلاثي العقل السياسي الموريتاني “البداوة والسلطة والإسلام” عنوان أطروحة الدكتور عبد الودود ولد الشيخ، ما زالت قائمة، وهي ما يسميها الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه العقل السياسي العربي “ثلاثي العقيدة والقبيلة والغنيمة”.

ليس اعتباطا أن يختار الآباء المؤسسون عنوان الجمهورية الإسلامية، فالإسلام هو أساس نشأة هذا المجتمع منذ الملحمة المرابطية الأولى، وهو عنصر وحدته ولحمته الاجتماعية إلى اليوم، وهو مفخرته عبر تراث المحظرة العظيم، حيث ما زال أهم ما تصدره هذه البلاد إلى العالم هم الحفاظ والفقهاء والشعراء والمدققون اللغويون..

لن أقول مع “مارشزين” في كتابه “القبائل والإثنيات والسلطة في موريتانيا” إن سيادة الزوايا في الدولة ما بعد الاستعمار عائدة إلى قدرتهم على تحقيق التوافق الذي طالما أنيط بهم في مجال تسوية النزاعات في المجتمعات الانقسامية، وربما كانت محورية الدين في حياة المجتمع الموريتاني هي ما خولتهم القيام بهذا الدور، لأن المخيال الديني هو ما يسمح بنشوء سلطة فوق قبلية كما يرى عبد الودود ولد الشيخ.

وإذا كانت الدولة الحديثة هيكلا مستوردا موروثا عن الإدارة الاستعمارية يراد له التطابق مع بنية اجتماعية قبلية وطبقية سابقة عليه، فإن تاريخ البلد المعاصر شكل مدا وجزرا في هذه العلاقة غير الاختيارية..

يرى عبد الرحمن بن خلدون أن نمط العمران البشري والاجتماع الانساني وشكل الدولة تابع لـ”نحلة معاش الناس”، وهو المصطلح الفريد الذي يترجمه البعض بالعبارة الماركسية أن البنية السياسية تتبع “نمط الإنتاج السائد”..

فما الذي تغير في نحلة معاش الناس أو نمط إنتاجهم منذ نشأة الدولة الموريتانية المعاصرة، حتى تتطابق البنية السياسية العصرية مع البنية الاجتماعية التقليدية أو تتكيف معها؟

يمكن تصنيف التاريخ الاقتصادي لهذه المنطقة على أنه قائم على الرعي والزراعة المطرية أو الفيضية منذ ما قبل المرابطين إلى يومنا هذا، فيما يسميه ابن خلدون العمران البدوي الذي يعتمد على الضروري من المعاش، وكانت مساهمته في الاقتصاد العالمي عبر مرحلتين: مرحلة مبادلات الملح بالذهب وهي التي سادت حتى استكشاف السواحل من قبل السفن الأوروبية، وتميزت هذه المرحلة بهيمنة القبيلة، و الفراغ السياسي، والتبعية للممالك السائدة في المغرب شمالا والسودان الغربي جنوبا رغم القوس المرابطي القصير، والمرحلة الثانية هي مرحلة التجارة الأطلسية والتي سادتها مبادلات العلك بالقماش “الخنط”، وترافقت مع التغير الثقافي الكبير عبر التعريب الحساني، وتبلور المحظرة، ونشأة النظام الأميري، وترسخ التراتبية الطبقية التي ما زالت ذهنيتها تحكم المجتمع إلى اليوم.

لقد حاول افرانسيس دي شاسية في كتابه “موريتانيا 1900 – 1975” أن يرصد بمقاربة ماركسية تحولات المجتمع الموريتاني منذ الاستعمار وحتى العقد الأول للدولة الوطنية، حيث لم تهتم الإدارة الاستعمارية بالاستثمار الاقتصادي، اللهم فيما عدا استخراج منجم الحديد في الشمال وفرض العشور لتسيير الأمور الجارية، وعلى المستوى السياسي والتربوي ركز المستعمر على توظيف القيادات التقليدية عبر مدارس أبناء الشيوخ، و”سوف تشكل هذه الطبقة المكونة والمدعومة من قبل المستعمر بعد الاستقلال الطبقة البيروقراطية الحاكمة التي تحتكر الحياة السياسية والاقتصادية للبلد. “يمكن تعريفها أيضا بأنها أقلية ضيقة تنحدر من الطبقات العليا للمجتمعات التقليدية المكونة من طرف المستعمر، والتي تلعب دور الوسيط الاقتصادي المميز بين رأس المال الأجنبي والمحلي والقوى العاملة في إقامة علاقات الإنتاج الرأسمالية في موريتانيا” على حد قوله..

كانت موجات الجفاف في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات أول ضربة لنحلة المعاش البدوية، وأول اختبار للإدارة التي بقيت حتى ذلك الوقت هامشية تلتقي مع المجتمع بشكل عابر من خلال “الحصرات” ودفع العشور.. سينهار نمط العيش التقليدي، ويتفسخ نظام الاسترقاق، ويتحول 70 بالمائة من السكان من البادية إلى أحياء الانتظار بالمدن، ويحدث ما سميناه سابقا لجوء المجتمع لدولة لم تكن جاهزة لاستقباله، حيث فاض المجتمع عن الدولة، أو ما لقبناه في مصنف سابق “المجتمع الفضفاض”…

حاول الأب المؤسس المرحوم المختار ولد داداه أن يستدير قليلا استجابة للمنعطف الحاسم؛ فألغى العشور، وتعامل مع المد اليساري والقومي بتأميم شركة ميفرما، وإصدار العملة الوطنية، والتعريب والانفتاح على كوادر المحظرة، واسترضاء الكادحين، ولكن القلق العام الذي خلفه الجفاف وحرب الصحراء كانا لصالح تصدر مؤسسة الجيش للمشهد السياسي..

يعتبر عقد الثمانينيات بامتياز عقد مخاض اجتماعي وسياسي أليم، حيث أطلت الفتن العرقية برأسها، وانتهى بأحداث السنغال الدامية والتي تركت جرحا غائرا في الذاكرة الوطنية… وجاءت “ديمقرطيات لابول” مع بداية التسعينيات محاولة لتنفيس الانفجار الاجتماعي، مع انتصار عولمة نظام السوق، وانتهاء عهود التخطيط المركزي التي لم تكن بلادنا محظوظة في الاستفادة منها، وكانت التعددية ودستور1991..

شكل العهد الطائعي وجه العملة الثاني للمرحلة الداداهية، حيث شجعت الديمقراطية الهجينة انغماس الإدارة في المجتمع التقليدي، واعتماد نموذج الولاء والعطاء، فالحزب الحاكم هو الوريث الشرعي للحزب الواحد، والقبيلة حاضرة في التوازنات تماما مثل العرق والجهة بطريقة شبه معلنة، وستظهر القضية الاجتماعية ممثلة في محاربة آثار الرق بشكل متزايد..

مع استفاقة النخبة وتغيير 2005، ستتم محاولة ترشيد الديمقراطية بتحديد عدد المأموريات الرئاسية، والانفتاح الإعلامي، وإرساء تقليد تشاوري مع الطبقة السياسية (اللجان المستقلة للانتخابات)، والاعتراف الرسمي بضرورة محاربة مخلفات الاسترقاق ومداواة الجراح العرقية..

هل تغيرت نحلة معاش الناس بعد الجفاف؟ وهل تغيرت الطبقة السياسية تبعا لذلك؟

فيما عدا التنمية الحيوانية والزراعة ظلت الصناعات الاستخراجية هامشية، وحاولت الدولة إدخال الزراعة المروية، وتطوير قطاع الصيد، ومكنت المدرسة رغم ارتباكها من تخفيف التفاوت الاجتماعي، وتطعيم الطبقة الحاكمة ببعض أبناء الشرائح الاجتماعية المهمشة ولو على سبيل التمثيل السياسي، ومثل القطاع الخدمي غير المصنف فرصة لأصحاب المبادرات الصغيرة، ولكن البطالة، والفقر، والأمية، احتفظا بنسبة الثلث المعطل لعملية التنمية.

لقد تضررت “البيروقراطية” بالمفهوم الإيجابي “الفيبري” أي اعتماد الكفاءة والمعايير في الإدارة، تضررت من مساوئ الديمقراطية الهجينة، فمنطق الولاء مقابل العطاء جعل الفساد جزءا أصيلا في تسيير الدولة، وهذا ما جعل معظم الحلول تبدو ترقيعية مهما كانت جديتها.

كتب أستاذ الجيل عبد الودود ولد الشيخ مقالا في جريدة القلم سنة 2000 بعنوان “الاستبداد الجنوبي” حاول فيه تصنيف نمط السلطة في الدولة الموريتانية على أنه يعتمد عقلية استبدادية يزكيها النظام الطبقي التقليدي والسلطانيات الإسلامية ولكنه يمارس التسيير القرابي الزبوني للدولة ويلبس ثوب المؤسسة العصرية الديمقراطية، لقد جاء التحليل متشائما ولم ير أفقا للتغيير… وقد علقت على المقال يومها بعنوان “الفراعنة ليسوا موريتانيين”، موضحا أنه رغم مطابقة توصيف الوضع السياسي حينذاك إلا أن علم الاجتماع الخلدوني أقرب لتفسير النمط السياسي في مجتمعات القبيلة، حيث تظل السلطة هشة فيما سماه الفقهاء سلطة الضرورة “من تغلب وجبت طاعته”، ومن هنا فإن فرص التغيير ظلت قائمة في المخيال السياسي الإسلامي، وخصوصا إذا عانقت الدعوة الدينية حركة اجتماعية أو عصبية صاعدة بالمصطلح الخلدوني.

يعتقد محمد عابد الجابري أن الدولة العربية الحديثة هي وريثة دولة الغنيمة، أو اقتصاد الغزو، أو نمط الإنتاج الخراجي كما يسميه سمير أمين، إنها الدولة الريعية التي تعتمد على تصدير المواد الأولية، ومن هنا فإنها تنتمي إلى الاقتصاديات التابعة، التي لا تسمح بتغيير عميق للبنية الاجتماعية التقليدية، وهو ما ينسحب على تخلف المجال السياسي بدوره..

في أشهر دراسة في علم الاجتماع السياسي، قدم عالم الاجتماع الأمريكي الكبير “رايت ميلز” وصفا للنخبة السياسية المتحكمة في الحزبين الكبيرين الأمريكيين سماها “صفوة القوة”؛ إنهم مجموعة من رجال الأعمال وباعة السلاح، وكبار القادة العسكريين، وبعض الإعلاميين، وممتهني الساسة… يتبادلون الأدوار رغم هذه الديمقراطية الكبيرة..

هل يمكننا مع فارق التوقيت أن نقول إن أحوال أهل الدنيا متقاربة كما يقول المتصوفة؟!

لم نتكلم هنا عن العوامل الخارجية المؤثرة على أداء النخبة السياسية وهي كثيرة ومتشعبة، ولكن ما دمنا نتحدث عن نمط الإنتاج الحديث فإن الثورة الرقمية أو ما يسميه ألفن توفلر “حضارة الموجة الثالثة” مس بشكل مباشر الحقل السياسي العالمي، حيث قضى على احتكار المعلومة، وقد أثر هذا التحول الكوني الذي لا يضاهيه في تاريخ البشرية إلا اكتشاف الكتابة والطباعة والآلة البخارية على كل شيء، حيث حاصر بشكل كبير قدرة السلطة في كل مكان على صناعة الرأي العام وتوجيهه، وهو تغير ما زالت تأثيراته الحضارية هائلة ومجهولة..

ماذا نريد قوله في هذه العجالة؟

ليس من الوارد طبعا أن نقدم حلولا هندسية لتقدم المجتمعات، فقد ثبت “عقم المذهب التاريخي” عنوان كتاب الفيلسوف الكبير كارل بوبر، وأكبر شاهد على ذلك هو فشل المعسكر الاشتراكي الشرقي، ولكن ملاحظات علماء الاجتماع والمفكرين تؤكد أن الحلول الجذرية تبدأ من تغيير ظروف عيش الناس ومعارفهم، فالسؤال السياسي الأول اليوم في ظل عولمة السوق هو ماذا ننتج أو بعبار أخرى ماذا نصدّر؟ إذا كان ما نصدره هو مواد أولية ليس فيها دور للمهارة الإنسانية “أو ما يعرف بالقيمة المضافة” مثل الحيوانات والأسماك وخامات المعادن، فنحن أمة على الهامش، وما نصدره لا يؤثر في سلوكنا وعاداتنا وأنظمتنا الثقافية والسياسية، أما إذا كان ما نصدره ناتجا عن مهارة إنسانية أو علمية فنحن قادرون على المنافسة، ونساهم بفاعلية في إعادة تشكيل عوالمنا الاجتماعية والسياسية..

ينبغي أن ينتقل السجال السياسي في بلادنا من مجرد التفكير في توزيع الثروة، إلى العمل الجاد على كيفية خلق هذه الثروة،

يحتفل الكثيرون منا اليوم بقدوم ثروات جديدة مثل الذهب والغاز والهيدروجين الأخضر، ولكن ما لم نحول الثروات القابلة للنفاد إلى برامج للتنمية المستدامة تستثمر في الإنسان الموريتاني ومهاراته ومعارفه عبر التعليم والصحة أولا، ويتم توجيهها للاستثمار في خلق قيمة مضافة في المجالات المتجددة كالثروة الحيوانية، والزراعة، والصيد، فإن مصيرنا سيشبه مصير إخوتنا في شبه الجزيرة العربية والخليج، حيث كان التغيير سطحيا، وضاعت الطفرات النفطية دون تنمية مستدامة، كمثل صفوان عليه تراب.

ومن أجل إرساء أسس حكامة رشيدة لا بد من تحديد الأهداف المرحلية والفرعية، وتسمية النتائج المتوخاة من كل إنفاق عمومي،

لا بد مثلا أن نحدد عدد التلاميذ في مدرستنا الجمهورية بما لا يزيد عن أربعين طالبا للفصل، وأن نقوم بتعليب ثلثي الألبان التي تنتجها أبقارنا في شهري أغسطس وسبتمبر من كل عام، وأن يتم استصلاح 10 آلاف هكتار جديدة على الضفة سنويا، وأن ننتج من الأعلاف ما يغطي حاجة ثروتنا الحيوانية كل صيف، وأن نعلب جميع الأسماك التي سنصدرها على أرضنا، وأن نبيع العالم الحديد المصنع في قضبان بدلا من الخامات المختلطة بالحجارة، وأن تعود محاظرنا وجامعاتنا علامة مسجلة ومرجعا للغة العربية والعلوم الإسلامية…

عندما ننغمس في التعليم والإنتاج، ستتغير عاداتنا ومعارفنا، وسيخفت شيئا فشيئا صوت القبيلة والطبقة والعرق والتنافس على الغنيمة، ويعلو صوت الكفاءة والإنجاز..

أمام الموريتانيين وهم يحتفلون بالذكرى الثالثة والستين لعيد الاستقلال الوطني اليوم فرصة ثمينة لاستغلال الإجماع السياسي غير المسبوق حول فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني لإعادة رسم أولويات المرحلة..

وهذه مساهمة متواضعة في هذا الصدد..

كل عام وموريتانيا بألف خير

 

زر الذهاب إلى الأعلى