ذكرى العاشر يوليو / بقلم اممد ولد أحمد
تطالعنا هذه الأيام الذكرى الخامسة والأربعين لانقلاب 10 يوليو 1978 وقد ارتأيت أنه من واجبي أن أستعرض – بإيجاز- أحداث هذا التغيير كما عايشتها آنذاك، وأبتغي من وراء هذا المجهود : إنارة الرأي العام الوطني بشأنه والظروف المصاحبة لاندلاعه، والاشارة إلى أن جهات وطنية صرفة ومختلفة المشارب (قادة عسكريين، و زعامات تقليدية، و قيادات سياسية شابة) بذلت فيه جهودا مشرفة ، وخاطرت بالغالي والنفيس و ذاقت طعم الأمرين في سبيل التحضير و التنفيذ المحكمين للتغيير المنشود من خلاله و إنقاذا للوطن من براثن خطر كان محدقا به.
إطلالة تاريخية :
لقد استقلت موريتانيا يوم 28 نوفمبر 1960 من الاستعمار الفرنسي تطبيقا للقانون الإطاري لسنة 1957، و تماشيا مع مقتضيات استفتاء نعم و لا (Oui ou Non) لسنة 1958 ، بقيادة حزب التجمع، و هو حزب المختار ولد داداه و سيد المختار ولد يحي أنجاي و غيرهم… فتأسس النظام الجديد في كنف السلطات الاستعمارية، ودأب على مسايرة مصالحها (سمي بنظام الاستعمار الجديد) ، و هو ما جلب له بالأساس معارضة طبيعية من لدن الكثير من النخبة السياسية على هيئة تنظيمات سياسية وطنية كمنظمة الشباب الموريتاني، وحزب النهضة، و بعض الحركات الشبابية من القوميين العرب و الكادحين…
ثم كان اندلاع حرب الصحراء على إثر انسحاب المستعمر الاسباني سنة 1975 من الصحراء الغربية، إذ سارعت المملكة المغربية و النظام الموريتاني إلى تقاسمها بدون تشاور مع ساكنته المحلية، التي ردت بكل عنف على هذا الاجراء التعسفي بتأسيس جبهة البوليزاريو المسلحة و أشعلت – بمساعدة جزائر بومدين- نار الحرب بلا هوادة في المنطقة.
لقد دخلت موريتانيا هذا النزاع بدون تحضير يذكر، فلم يكن جيشها يزيد على 3000 فرد، فاقدا للتدريب و بتسليح هزيل.. و وصف اقتصادها بالضعف و الفقر، حيث أرتكز أساسا على التنمية الحيوانية بطرق تقليدية، تعاني تحت وطأة سنين الجفاف العجاف، و انعدام البنية التحتية الضرورية … بينما كان أغلب المواطنين يعيشون في الأرياف مغيبين عن ما يجري حولهم، وبعيدين عن كل شكل من أشكال التعبئة و الاستعداد للمجابهة الجارية… فلم تعدو البلاد إذا أن تكون هي الحلقة الأضعف في هذه الحرب، و تلقت أغلب الضربات الموجعة حيث سالت الدماء على الجبهات، و أشتد الرعب في النفوس بعد تكرار استهداف المدن الرئيسية (نواكشوط و أزويرات و أطار و تجكجة و النعمة…)، و أنهار الاقتصاد، و انفجرت هجرة السكان من الأرياف إلى المدن.. و بالنتيجة خيم الظلام في النفوس و ساد التشاؤم…
و في ظل هذا الوضع المزري كان من الطبيعي أن تلوح في الأفق بداية التمرد على الواقع و البحث عن حلول.. حيث بدأت الاتصالات بين بعض أطراف الطيف السياسي مع بعض القادة في المؤسسة العسكرية و نجم عن ذلك تشكل تجمع سري ضم كلا من : العسكريين : العقيد المصطفى ولد محمد السالك و الرائد جدو ولد السلك و الرائد محمد خونه ولد هيدالة و الرائد مولاي ولد بوخريص و الرائد أحمدو ولد عبد الله و من الزعماء التقليديين : شيخن ولد محمد لقظف و حمود ولد أحمدو و أحمد بن أعمر و با مامادو صمبولي وبحام ولد محمد الأغظف، وعبد القادر كامارا، و من السياسيين الشباب : سيد أحمد ولد أبنيجارة، و محمد يحظيه ولد أبريد الليل و أحمد ولد الوافي و محمد المختار ولد الزامل و محجوب ولد بيه و أممد ولد أحمد.
وكانت بعض الشخصيات تعتبر مشاركة للرأي ضمنيا، مثل اسماعيل ولد اعمر، أو مبدئيا مثل يحي ولد منكوس.
و استمر هذا التجمع المذكور أعلاه بالعمل بسرية تامة و بفاعلية ما يناهز السنة ليضع اللمسات الأخيرة على برنامج الانقلاب و تنفيذه المحكم.
و بغية تحييد دول الجوار، فقد أوفد كلا من السيدين : محجوب ولد بيه إلى الجزائر لمقابلة القيادة الجزائرية، و احمد الوافي لمقابلة رئيس الحزب الاشتراكي المغربي المعارض، و لقيا القبول المطلوب.
أهداف إنقلاب العاشر من يوليو :
هدف الانقلاب أساسا إلى : إيقاف نزيف الحرب أولا، ثم تقييم الوضع الاقتصادي للبلاد في سبيل إقتراح خطة مستعجلة لإنعاشه، ثم المباشرة بتنظيم انتخابات سياسية شفافة لانتخاب قيادات جديدة للبلاد.
و لتسهيل تنفيذ الانقلاب أجرى العقيد المصطفى ولد محمد السالك، قائد أركان الجيش، تحويلات في قيادات الجيش شملت : تسمية الرائد جدو ولد السالك قائدا لمنطقة الصحراء، و الرائد مولاي ولد بوخريص قائدا لمنطقة آدرار، والرائد محمد خونه ولد هيدالة قائدا لمنطقة تيرس الزمور، و الرائد أحمدو ولد عبد الله قائدا لمنطقة نواكشوط.
ثم زحف الرائد جدو ولد السالك بكتيبته – و بسرعة مذهلة ـــ من آوسرد في الصحراء بإتجاه نواكشوط، حيث كان الوصول يوم 09 يوليو 1978. و في اليوم التالي كان الانقلاب مكتمل الأركان، فتولى زمام السلطة العقيد المصطفى ولد محمد السالك كرئيس للدولة وقائد عام للجيش، و شكلت حكومة جديدة و لجنة عسكرية عليا.
و ما إن استتب الأمر للانقلاب حتى انطلقت المظاهرات الشعبية العارمة المساندة في العاصمة و المدن الكبرى بالبلاد، و قد بدا الانقلاب مفاجئا للجميع و خاصة الدول الحليفة للنظام السابق بسبب السرية التامة و التنفيذ المحكم، بل إن بعضها سجل صراحة عدم ارتياحه (فرنسا)، وبدى الإرتباك لدى آخرين (المغرب).
الاجراءات المتخذة من قبل الحكومة الجديدة :
بادرت الحكومة الوليدة إلى خلق هدنة ما فتئت أن انسحبت على إثرها من الحرب نهائيا و بلا رجعة، بل إنها اعتمدت دبلوماسية الحياد تفاديا للتوترات القائمة بين الأشقاء الجيران. و أعلت من الشأن الوطني عن طريق إفراز أول تشكيلة وزارية خالية من التوازنات التقليدية السلبية . كما سارعت باتخاذ اجراءات مستعجلة لإنعاش الاقتصاد : بعقد اتفاقيات جديدة في مجال الصيد، ثم لاحقا التوسع في الزراعة المروية و إصلاح القطاع المعدني… و تبنت فكرة بناء جيش وطني قوي مستقل.
الانحراف عن المسار المخطط له :
رغم التوجهات الجادة في مجال الاصلاح الوطني التي حملها تغيير العاشر من يوليو 1978، إلا أن الواقع جاء مخالفا أحيانا للطموحات، فانحرفت هذه التجربة عن ما كان مقررا لها، و تجلى ذلك بسرعة من خلال تفكك النواة المؤسسة للتغيير بعزل الرائد جدو ولد السالك و استبعاد زملائه السياسيين، بل تم جلب عناصر من النظام السابق إلى هرم السلطة … و لم يجري تطبيق البرنامج المقرر بشكل كامل كالإصلاح الاقتصادي و تنظيم انتخابات ديمقراطية شفافة… مما دفع البلاد لاحقا في أتون سلسلة الانقلابات المتلاحقة و عدم الاستقرار…
و مهما يكن من أمر، فإن أي تقييم جاد لتغيير العاشر من يوليو 1978 سيعتبره إحدى الحلقات الساطعة و الايجابية من تاريخ هذه البلاد، ويكفيه شرفا أنه أكد ان الموريتانيين بإمكانهم تنصيب رئيس دون إملاء أجنبي.
هذا كان طموح تلك المرحلة البعيدة التي لايتذكرها الجميع، بل يجهلها، ربما، من هم دون سن الخمسين وهم ـــ لله الحمد ـــ الأغلبية الساحقة.
الطموح الآن ليس هو طموح ماقبل أربعين سنة. الظروف والحاجة هي التي تملي، غالبا، الطموح. لا أظن أن من بين من شاركوا، بصيغة أو بأخرى، أو من سايروا فكرة التغيير التي أدت الى العاشر يوليو، من كان يعتقد ان تلك الصيغة قابلة للتكرار أو بالأحرى ان تستمر روحها في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين.
ان المرحلة تتطلب الصدق مع النفس ومع الوطن وتملي صيغ تلائم الزمن الجديد وتعقداته. ان الصيغة الصحيحة والطبيعية لروح الزمن هي إفراز نظام مدني مبني على التشاور والشفافية والتقيد بالكفاءة والاستحقاق والأحترام الصارم للنصوص والمؤسسات.